يَبْكِي الْغَرِيبُ عَلَيْـهِ لَيْسَ يَعْرِفُـهُ


 قِيلَ لِمُعاوية بن أبي سفيان يُوجَدُ بِالحِيرَةِ رَجُلٌ مِنْ جُرهُم، لهُ قِدَمٌ وسِنٌّ وفَصَاحَةٌ وعَقلٌ، وقَـد مَضَتْ عَليهِ بُرهَـة مِنْ دَهْرِهِ، و رأىٰ أعَاجِيبَ في عَصرِهِ؟ 

فَقَالَ مُعاويَة : عَلَيَّ بِـهِ .!

فَلَمَّا حضَرَ قالَ لَـهُ : مَنِ الرَّجُلُ .؟ قالَ : عبيد بن شرية . قَالَ : ثُمَّ مِمَّنْ .؟ قَالَ : مِنْ قَوْمٍ لَيْسَتْ لهُمْ بَقِيَّة .! قَالَ : فَكَمْ مَضَىٰ عَلَيْكَ مِنْ عُمُرِكْ .؟
قَالَ : عِشْرُونَ ومائة سنة . قَالَ : أهَمَّتْكَ السُّنُونُ .؟ قَالَ : أجَلْ يا أمير المؤمنين ، وَقَرَّعَتْنِي بِرَيْبِهَـا المَنُون ..؟!
قَالَ لَـهُ مُعَاويَـة : فَأخْبِرني بِأعجَبِ مَـا رَأيْتَ في عُمـرِكَ .؟
قَالَ : نَعَـمْ يا أميـر المؤمنين، كنتُ في حَيٍّ مِنْ أحيَاءِ العَرَبِ وقَد مَاتَ لهُمُ مَيِّتٌ يُقَالُ لَهُ : جَبَلَـةُ بـنِ الحُوَيْـرِثْ، فَمَشَيْتُ فـي جَنَازَتِـهِ وَأنِسْتُ بِجَمَاعَتِهِ، فَلَمَّا دُلِّيَ في قَبْرهِ وَأعوَلَ النِّسَـاء في إثْـرِهِ، أدرَكَتْني عَليْـهِ عَبْـرَةُ لَـمْ أسْتَطِعْ رَدَّهَا، وتَمَثَّلْتُ بِأبْيَاتٍ كُنْتُ سَمِعتُهَـا: 

يَا قَلْبُ إِنَّكَ مِنْ أَسْمَـاءَ مَغْرُورُ .. فَاذْكُرْ وَهَلْ يَنْفَعَنْكَ الْيَوْمَ تَذْكِيرُ 
قَـد بُحْتَ بِالْحُبِّ مَا تُخْفِيهِ مِنْ أَحَـدٍ .. حَتَّىٰ جَرَتْ بِكَ إِطْلاقَاً مَحَاضِيرُ
تَبْغِي أُمُوراً فَمَا تَدْرِي أَعَاجِلَهَـا .. أَدْنَىٰ لِرُشْدِكَ أَمْ مَا فِيهِ تَأْخِيرُ .؟ 
فَاسْتَقْدِرِ اللَّهَ خَيْـراً وَارْضَيَنَّ بِـهِ .. فَبَيْنَمَا الْعُسْرُ إِذْ دَارَتْ مَيَاسِيرُ 
وَبَيْنَمَا الْمَـرْءُ فِي الأَحيَـاءِ مُغْتَبِط ٌ .. إِذْ صَارَ فِي الرَّمْسِ تَعْفُوهُ الأَعَاصِيرُ 
يَبْكِي الْغَرِيبُ عَلَيْـهِ لَيْسَ يَعْرِفُـهُ .. وَذُو قَرَابَتِهِ فِي الْحَيِّ مَسْرُورُ 
حَتَّىٰ كَـأنْ لَـمْ يَكُـنْ إِلَّا تَذَكُّـرُهُ .. وَالدَّهْـرُ في أَيْنَمَـا حَـالٍ دَهَـارِيرُ .؟!  
 
فَبَيْنَمَا أنَا أُرَدِّدُ هَذهِ الأبيات، وعينايَ تَنْسَكِبَانِ انْسِكَابَـاً لا أملِكُ رَدَّ دَمعِهِمَـا، إذْ قَالَ لي رَجُلٌ إلىٰ جَنْبي مِنْ عُذْرَة :
يَا أبَا عَبدِ اللَّـهِ هَـلْ تَعرِفُ قَائِلُ هَـذا الشِّعرَ؟ قُلْتُ : لَا وَاللَّـهِ .؟ قَالَ : هَـذا قَالَـهُ المَيِّـتُ الـذي دَفَنَّـاهُ.؟ وَأنْتَ الغَرِيبُ الذي تَبْكي عَلَيْهِ ، وَلَا تَعرِفُهُ ولا تَعلَمُ أنَّهُ قَائِلُ هَذا الشِّعر وذُو قَرَابَتِهِ الذي ذَكَرَ أنَّهُ مَسْرُورُ هُوَ ذَاكَ ، وَأشَارَ إلىٰ رَجُلٍ في الجَمَاعَةِ ، وَقَالَ : واللَّهِ مَـا يَسْتَطِيعُ كِتْمَـانَ مَا هُـوَ عَليْـهِ مِـنَ السُّرُورِ بِفَقْـدِهِ .!! 
فقال لَـهُ معاويَـة : يا أخَا جُرهم سل ما شئت .؟
قال : مَـا مَضىٰ مِـنْ عمـري تَـردُّهُ.؟ والأجَـلُ إذا حَضَـرَ تَدفعُـهُ.؟ 
قال : ليسَ ذلكَ إليَّ ، سَلْ غَيْرَ ذلكَ.! 
قال : يا أمير المؤمنين ليسَ إليكَ الدنيا فَتَردَّ شَبَـابي، ولا الآخـرة فَتُكـرِمَ مَـآبي وأمَّـا المَـال فقَـد أخَـذتُ مِنـهُ فـي عنفُوَانـي مَـا كَفَـاني.

أرشيف المدونة

نموذج الاتصال

إرسال