أَلا لَيتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً
مالك بن الريب وُلد في عهد عمر بن الخطاب و عاش حتى فترة حكم معاوية بن أبي سفيان، و هو واحد من صعاليك العرب عكف مالك بن الريب على حاله في قطع الطرق سنوات، وذات يومٍ مرّ عليه سعيد بن عثمان والي خراسان حفيد الصحابي عثمان بن عفان – رضي الله عنه – فوعظه ونصحه بالتوبة عن قطع الطرق وفتح له باب الجهاد في سبيل الله وأثني على فروسيته وشجاعته، فلقيت نصيحة سعيد في قلبه موضعًا فاستجاب له، وذهب معه لأرض خراسان للغزو، وأبلى بلاءً حسنًا.
و من اشعاره قوله عندما اراد الخروج للجهاد مع سعيد بن عثمان و بكاء ابنته عليه:
اسكتي قد حززتِ بالدمعِ قلبي ... طالما حزَّ دمعكنَّ القلـوبـا
فعسى الله أن يدفـعَ عـنّـي ... ريبَ ما تحذرينَ حتى أَؤوبـا
ليس شيء يشاؤه ذو المعالـي ... بعزيزٍ عليه فادعي المُجيبـا
ودعي أن تقطعي الآن قلبـي ... أو تريني في رحلتي تعذيبـا
أنا في قبضة الإلـه إذا كـنتُ ... بعيدًا أو كنت منكِ قريبـا
كم رأينا امرأً أتى من بـعـيدٍ ... ومقيمًا على الفراشِ أُصيبـا
فدعيني من انتحـابـك إنـي ... لا أبالي إذا اعتزمتِ النحيبـا
حسن اسلام مالك و تنسك وشارك في معارك كثيرة لنصرة الاسلام و دولته، حتى طعن غي احدى المعارك و قيل بأن الطعنة كانت مسمومة فلما ايقن مالك انه هالك لا محالة، هناك كانت نهاية مالك بدايةً مُتفردة، ويائيَّته روعةً مُخلدة، خلَّد فيها لحظات المنية، بقصيدته المرثية، عاش قاطعًا للطرقات، ثم عاد تائبًا مجاهدًا في صفوف السريات، ثم مات شاعرًا بقصيدة من الخالدات، هي عين من عيون الشعر العربي وفريدة من فرائده، وهي مزيج من الألم والذكريات والحنين، وكان شعور الغربة، غربة الأهل، والوطن، وغربة الموت هي النغمة المسيطرة على أبيات قصيدته اليائية الباكية قبل أن تكون مُبكية، إذ يقول في مرثيته:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة … بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركبُ عرضه … وليت الغضا ماشى الركاب لياليا
لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا … مزار ولكن الغضا ليس دانيا
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى … وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
وأصبحتُ في أرض الأعادي بعدما … أراني عن أرض الأعادي قاصيا
دعاني الهوى من أهل ودّي وصحبتي … بذي الطبسين، فالتفت ورائيا
أجبت الهوى لما دعاني بزفرة … تقنعت، منها أن ألام، ردائيا
أقول وقد حالت قرى الكرد بيننا … جزى الله عمرا خير ما كان جازيا
إنْ الله يرجعني من الغزو لا أرى … وإن قلّ مـالي طالبا ما ورائيا
تقول ابنتي لما رأت طول رحلتي … سفارك هذا تاركي لا أبا ليا
لعمري لئن غالت خراسان هامتي … لقد كنت عن بابي خراسان نائيا
فإن أنج من بابي خراسان لا أعد … إليها وإن منيتموني الأمانيا
فلله دري يوم أترك طائعا … بنيَّ بأعلى الرقمتين، وماليا
ودرٌ الظباء السانحات عشية … يخبّرن أني هالك من ورائيا
ودر كبيريَّ الذين كلاهما … عليَّ شفيق ناصح لو نهانيا
ودر الرجال الشاهدين تفتكي … بأمري ألا يقصروا من وثاقيا
ودر الهوى من حيث يدعو صحابه … ودر لجاجاتي ودر اتنهائيا
تذكرت من يبكي علي فلم أجد … سوى السيف والرمح الرديني باكيا
وأشـقرَ خنديداً يجـرُّ عِنانه … إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا
ولكنْ بأكناف السُّمَيْنَةِ نسوة … عزيزٌ عليهن العشيةَ ما بيا
صريعٌ على أيدي الرجال بقفرة … يُسّوُّون لحدي حيـث حُـمَّ قضائيا
ولما تراءت عند مروٌ منيّتي … وحلّ بها جسمي وحانت وفاتيا
أقولُ لأصحابي ارفعوني فإنني … يقرُ بعيني أن سهيل بدا ليا
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا … برابية إني مقيم لياليا
أقيما علي اليوم أو بعض ليلةٍ … ولا تعُجلاني قد تبيّن مابيا
وقوما إذا ما استُل روحي فهيّئا … لي القبر والأكفان ثم ابكيا ليا
وخطا بأطراف الأسنة مضجعي … وردّا على عيني فضل ردائيا
ولا تحسُداني بارك الله فيكُما … من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خُذاني فجُرّاني ببردي إليكما … فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا
وقد كنت عطّافاً إذا الخيل أدبَرتْ … سريعاً لدي الهيجا إلى من دعانيا
وقد كنت محموداً لدى الزاد والقرى … وعن شتم بن العم والجار وانياً
وقد كنت صبارا على القرن في الوغى … ثقيلاً على الأعداء عضبا لسانيا
فطورا تراني في ظلال ونعمة … وطورا تراني والعتاق ركابيا
وطورا تراني في رحى مستديرة … تخرق أطراف الرماح ثيابيا
وقوما على بئر الشبيكي فأسمعا … بها الوحش والبيض الحسان الروانيا
بأنكما خلفتماني بقفرة … تهيل عليّ الريح فيها السوافيا
ولا تنسيا عهدي خليلاي إنني … تقطَع أوصالي وتبلى عظاميا
فلن يعدم الولدان بثا يصيبهم … ولن يعدم الميراث مني المواليا
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني … وأين مكان البعد إلا مكانيا
غداة غدٍ يا لهف نفسي على غد … إذا أدلجوا عني وخلفت ثاويا
وأصبح مالي من طريف وتالد … لغيري وكان المال بالأمس ماليا
فيا ليت شعري هل تغيرت الرحى … رحى الحرب أو أضحت بفلج كما هيا
إذا الحيُّ حَلوها جميعاً وأنزلوا … بها بَقراً حُمّ العيون سواجيا
رَعَينَ وقد كادَ الظلام يُجِنُّهـا … يَسُفْنَ الخُزامى مَرةً والأقاحيا
وهل أترُكُ العِيسَ العَواليَ بالضُّحى … بِرُكبانِها تعلو المِتان الفيافيا
إذا عُصَبُ الرُكبانِ بينَ عُنَيْزَةٍ … و بَوَلانَ عاجوا المُبقياتِ النَّواجِيا
فيا ليت شعري هل بكت أم مالك … كما كنت لو عالوا نَعِيَّـكِ باكيا
إذا مُتُّ فاعتادي القبور وسلمي … على الرمس أسقيتي السحاب الغواديا
تري جَدَثٍ قد جرت الريح فوقه … غبارا كلون القسطلان هابيا
رهينة أحجار وترب تضمنت … قرارتها مني العظام البواليا
فيا راكبا إما عرضت فبلغن … بني مالك والريب ألا تلاقيا
وبلغ أخي عمران بردي ومئزري … وبلغ عجوزي اليوم أن لا تدانيا
وسلم على شيخيّ مني كليهما … وبلغ كثيرا وابن عمي وخاليا
وعطل قلوصي في الركاب فإنها … سَتَفلِقُ أكباداً وتبكي بواكيا
بعيد غريب الدار ثاو بقفرة … يد الدهر معروفا بأن لا تدانيا
أقلب طرفي حول رحلي فلا أرى … به من عيون المؤنسات مراعيا
وبالرّمل مني نسوةًّ لو شهد نني … بكين وفدّين الطبيب المداويا
فمنهن أمّي وابنتاها وخالتي … وباكية أخرى تهيج البوا كيا
وما كان عهد الرّمل مني وأهلهِ … ذميماً ولا بالرّملِ ودّعت ُ قاليا