عجبتُ لمسراها وأنَّى تخلَّصَتْ ... قصة جعفر بن علبة الحارثي



جعفر بن علبة ابن ربيعة ابن عبد يغوث الحارثي واحد من فرسان العرب المشهورين و ابن عبد يغوث هذا جد جعفر أسر في الجاهلية يوم الكلاب الثاني ثم قتل و رثى نفسه بمرثية شهيرة قبل موته قال فيها:  
كان جعفر بن علبة يزور نساء من عقيل بن كعب وكانوا متجاورين هم وبنو الحارث بن كعب فرآه بعض شباب القبيلة فأخدتهم الحمية و أمسكو به فكشفوا دبر قميصه وربطوه وضربوه بالسياط ثم أقبلوا به وأدبروا على النسوة اللاتي كان يتحدث إليهن على تلك الحال ليغيظوهن ويفضحوه عندهن فقال لهم يا قوم لا تفعلوا فإن هذا الفعل مثلة وأنا أحلف لكم بما يثلج صدوركم ألا أزور بيوتكم أبدا فلم يقبلوا منه فقال لهم فإن لم تفعلوا ذلك فحسبكم ما قد مضى ومنوا علي بالكف عني فإني أعده نعمة لكم و يدا لا أكفرها أبدا أو فاقتلوني وأريحوني فأكون رجلا اذى قوما في دارهم فقتلوه فلم يفعلوا وجعلوا يكشفون عورته بين أيدي النساء ويضربونه ويغرون به سفهاءهم حتى شفوا أنفسهم منه ثم خلوا سبيله.
فلم تمض إلا أيام قليلة حتى عاد جعفر ومعه صاحب له و ابن أخيه علي بن جعدب فدفع براحلته حتى أولجها بيوتهم ثم مضى هو وصاحباه و أخفوا أنفسهم عند واد قريب، وكانت عقيل أقفى خلق الله لأثر فتبعوه حتى انتهوا إليه وإلى صاحبيه والعقيليون مغترون وليس مع أحد منهم عصا ولا سلاح فوثب عليهم جعفر بن علبة وصاحباه بالسيوف فقتلوا منهم رجلا وجرحوا آخر وافترقوا.
فاستعدت عليهم عقيل السري بن عبد الله الهاشمي عامل المنصور على مكة فأحضرهم وحبسهم فإقتص من الجارح ودافع عن جعفر بن علبة وكان يحب أن يدرأ عنه الحد لخؤولة أبي العباس السفاح في بني الحارث ولأن أخت جعفر كانت تحت السري بن عبد الله وكانت حظية عنده إلى أن أقاموا عليه قسامة أنه قتل صاحبهم وتوعدوه بالخروج إلى أبي جعفر والتظلم إليه فحينئذ دعا بجعفر فسجنه هو و علي بن جعدب غير أن جعفر ساعد إبن أخيه فهربه من السجن و بقي هو وحده.
في هذه الأثناء كان والده يترقب الأخبار و ينشد الأشعار لزوجته أم جعفر فقال:
 

لعمرك إن الليل يا أم جعفر ... علي وإن عللتني لطويل

أحاذر أخبارا من القوم قد دنت ... ورجعة أنقاض لهن دليل

لعمرك إن ابني غداة تقوده ... عقيل لنأي الناصرين ذليل
 
فلامته وقالت شعرا ردا عليه:
 
أبا جعفر أسلمت للقوم جعفرا ... فمت كمدا أو عش و أنت ذليل

و عندما أخرج جعفر للقتل إستقبل الأمر إستقبال الأبطال، قال له غلام من قومه أسقيك شربة من ماء بارد فقال له أسكت لا أم لك إني إذا لمهياف وانقطع شسع نعله فجلس يصلحه، فقالو له أما يشغلك مالأنت فيه عن هذا، فقال لهم:

أَشَدُّ قِبالَ نَعلي أَن يَراني ... عَدوّي لِلحَوادِثِ مُستَكينا
 
لما قتل جعفر بن علبة قام نساء الحي يبكين علیه، وقام أبوه إلى كل ناقة وشاة فنحر أولادها، وألقاهـا بین آیدیها وقال : أبكين معنا على جعفر ! فما زالت النوق ترغو، والشاة تثغو، والنساء يصحن ويبكين وهو يبكي معهن، فما رئي يوم كان أوجع وأحرق مأتماً في العرب من يومئذ.
و من شعره أنه في السجن قبل قتله قال يريهم صبره و تجلده و عدم إكتراثه بالموت قوله:
 
هوايَ مع الركب اليمانينَ مُصّعدٌ ... جنيبٌ وجثماني بمكَّةَ موثقُ
عجبتُ لمسراها وأنَّى تخلَّصَتْ ... إليَّ، وبابُ السجن دوني مُغْلَقُ؟!
ألمَّتْ فحيَّت ثم قامت فودعتْ ... فلمّا تولت كادتِ النفسُ تَزْهَقُ
فلا تحسبي أني تخشَّعتُ بعدكم ... لشيء ولا أني من الموتِ أفْرَقُ  
ولكنْ عرتني من هواكِ ضمانةٌ ... كما كنتُ ألقى منكِ إذ أنا مُطْلَقُ

أرشيف المدونة

نموذج الاتصال

إرسال