علوَّ في الحياة وفي الممات لأبي الحسن الأنباري في رثاء ابن البقية


قصة هذه القصيدة تعود إلى حرب قد جرت أحداثها بين عز الدولة وابن عمه عضد الدول وكان لعضد الدولة وزير يقال له ابن البقية، وكان ابن البقية لا يريد لهذه الخلاف أن يتفاقم، فقرر أن يتوجه إلى قصر عز الدولة، ويكلمه لعله يقيم الصلح بينه وبين عضد الدولة، ولكن عز الدولة رفض الصلح، وغضب من الوزير غضبًا شديدًا، لأنه اعتقد بأنه إن قبل الصلح فإن مكانته سوف تهتز، وقام بطرده من القصر، ولم يكتف بذلك، بل إنه قد قام ببعث أحد رجاله إلى عضد الدولة، وقام بنشر خبر زيارة الوزير لعز الدولة في القصر، فوصل الخبر إلى عضد الدولة، فغضب أشد الغضب  وأمر بإحضار الوزير، وحكم عليه بالخيانة.

 ووضع الوزير في ساحة أمام القصر، وأمر عضد الدولة بجلب فيلة، ووضعهم بالقرب من الوزير، فداسوا عليه حتى مات، وكان عمره في ذلك الوقت ما يقارب الخمسين، وبعد أن توفي الوزير، أمر عضد الدولة بأن يصلب على باب بيته و يترك معلقا في السماء، وكان بيته قريبًا من قصر عضد الدولة، وعندما رآه الناس على هذه الحال، أصابهم حزن شديد عليه وعلى ما أصابه، وكان ذلك بسبب قربه من الناس، وكثرة مساعدته لهم، فقد كان لا يتأخر عن تقديم الخدمة لأي كان، وكان يقضي حوائج الناس.

وبينما هو مصلوب على باب بيته، مرّ شاعر يقال له أبو الحسن الأنباري، ورآه وقد تجمع الناس من حوله و الحرس يحرصونه حتى لا ينزله أحد و قد أشعلو نارا من شدة البرد، فأنشد حزينًا على موته قائلًا:

​​علوَّ في الحياة وفي الممات ... لحقٌّ أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا ... وفودُ نَداك أيام الصِّلات
كأنك قائم فيهم خطيبـــــــــًا ... وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاءً ... كمدِّهما اليهم بالهِبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا ... عن الأكفان ثوبَ السافيات
لعُظْمك في النفوس تبيت تُرعى
... بحرّاس وحفّاظ ثِقات
وتوقَد حولك النيرانُ ليلا
... كذلك كنت أيام الحياة
ركبتَ مطيةً من قبلُ زيدٌ
... علاها في السنين الماضيات
وتلك قضية فيها تأسٍّ
... تباعد عنك تعيير العداة
ولم أرَ قبل جِذعك قطُّ جِذعًا
... تمكّن من عناق المَكرُمات
أسأتَ الى النوائب فاستثارث
... فأنت قتيل ثأر النائبات
وكنتَ تُجيرُنا من صَرْف دهر
... فعاد مطالبًا لك بالتِّـرات
وصيَّر دهرك الاحسانَ فيه
... إلينا من عظيم السيئات
وكنتَ لمعشر سعدًا فلما
... مضيتَ تفرقوا بالمنحِسات
غليلٌ باطنٌ لك في فؤادي
... يُخفَّف بالدموع الجاريات
ولو أني قدَرتُ على قيام
... بفرضك والحقوق الواجبات
ملأتُ الأرض من نظم القوافي
... ونحت بها خِلافَ النائحات
ولكني أصَّبر عنك نفسي
... مخافة أن أُعَد من الجناة
وما لك تربة فأقول تُسقى
... لأنك نُصبُ هطْل الهاطلات
عليك تحيةُ الرحمن تَترى
... برَحماتٍ غوادٍ رائحاتِ 

فلما وصلت القصيدة إلى عضد الدولة قال ليتني كنت مكانه و كان في مكاني و قيل في ما قيل فيه، ثم أمر بإنزاله.

قال صلاح الدين الصفدي: لم يسمع في مصلوب أحسن منها.

أرشيف المدونة

نموذج الاتصال

إرسال